الاثنين، 7 مايو 2012

                                                     محمد على باشا














محمد علي باشا المُلقب بالعزيز أوعزيز مصر، هو مؤسس مصر الحديثة وحاكمها ما بين عامي 1805 إلى 1848. استطاع أن يعتلي عرش مصر عام 1805 بعد أن بايعه أعيان البلاد ليكون واليًا عليها، بعد أن ثار الشعب على سلفه خورشيد باشا، ومكّنه ذكاؤه واستغلاله للظروف المحيطة به من أن يستمر في حكم مصر لكل تلك الفترة، ليكسر بذلك العادة التركية التي كانت لا تترك واليًا على مصر لأكثر من عامين.
خاض محمد علي في بداية فترة حكمه حربًا داخلية ضد المماليك والإنجليز إلى أن خضعت له مصر بالكليّة، ثم خاض حروبًا بالوكالة عن الدولة العلية في جزيرة العرب ضد الوهابيينوضد الثوار اليونانيين الثائرين على الحكم العثماني في المورة، كما وسع دولته جنوبًا بضمه للسودان. وبعد ذلك تحول لمهاجمة الدولة العثمانية حيث حارب جيوشها في الشاموالأناضول، وكاد يسقط الدولة العثمانية، لولا تعارض ذلك مع مصالح الدول الغربية التي أوقفت محمد علي وأرغمته على التنازل عن معظم الأراضي التي ضمها.
خلال فترة حكم محمد علي، استطاع أن ينهض بمصر عسكريًا وتعليميًا وصناعيًا وزراعيًا وتجاريًا، مما جعل من مصر دولة ذات ثقل في تلك الفترة، إلا أن حالتها تلك لم تستمر بسبب ضعف خلفائه وتفريطهم في ما حققه من مكاسب بالتدريج إلى أن سقطت دولته في 18 يونيو سنة 1953 م، بإلغاء الملكية وإعلان الجمهورية في مصر.
ولد في مدينة قولة التابعة لمحافظة مقدونيا شمال اليونان عام 1769، لأسرة ألبانية. كان أبوه "إبراهيم آغا" رئيس الحرس المنوط بخفارة الطريق ببلده، وقيل أن أباه كان تاجر تبغ. كان لوالده سبعة عشر ولدًا لم يعش منهم سواه،وقد مات عنه أبوه وهو صغير السن، ثم لم تلبث أمه أن ماتت فصار يتيم الأبوين وهو في الرابعة عشرة من عمره فكفله عمه "طوسون"، الذي مات أيضًا، فكفله حاكم قولة وصديق والده "الشوربجي إسماعيل" الذي أدرجه في سلك الجندية، فأبدى شجاعة وحسن نظر، فقربه الحاكم وزوجه من امرأة غنية وجميلة تدعى "أمينة هانم"، كانت بمثابة طالع السعد عليه، وأنجبت له إبراهيم وطوسون وإسماعيل ومن الإناث أنجبت له ابنتين. وحين قررت الدولة العثمانية إرسال جيش إلى مصر لانتزاعها من أيدي الفرنسيين كان هو نائب رئيس الكتيبة الألبانية والتي كان قوامها ثلاثمائة جندي، وكان رئيس الكتيبة هو ابن حاكم قولة الذي لم تكد تصل كتيبته ميناء أبو قير في مصر في ربيع عام 1801، حتى قرر أن يعود إلى بلده فأصبح هو قائد الكتيبة. ووفقًا لكثير ممن عاصروه، لم يكن يجيد سوى اللغة الألبانية، وإن كان قادرًا على التحدث بالتركية.
بعد فشل الحملة الفرنسية على مصر، وانسحابها عام 1801، تحت ضغط الهجوم الإنجليزي على الثغور المصرية، الذي تواكب مع الزحف العثماني على بلاد الشام،إضافة إلى اضطراب الأوضاع في أوروبا في ذلك الوقت. شجع ذلك المماليك على العودة إلى ساحة الأحداث في مصر، إلا أنهم انقسموا إلى فريقين أحدهما إلى جانب القوات العثمانية العائدة لمصر بقيادة إبراهيم بك الكبير والآخر إلى جانب الإنجليز بقيادة محمد بك الألفي. ولم يمض وقت طويل حتى انسحب الإنجليز من مصر وفق معاهدة أميان. أفضى ذلك إلى فترة من الفوضى نتيجة الصراع بين العثمانيين الراغبين في أن يكون لهم سلطة فعلية لا شكلية على مصر، وعدم العودة للحالة التي كان عليها حكم مصر في أيدي المماليك، وبين المماليك الذين رأوا في ذلك سلبًا لحق أصيل من حقوقهم. شمل ذلك الصراع مجموعة من المؤامرات والاغتيالات في صفوف الطرفين، راح ضحيتها أكثر من والٍ من الولاة العثمانيين. خلال هذه الفترة من الفوضى، استخدم محمد علي قواته الألبانية للوقيعة بين الطرفين، وإيجاد مكان له على مسرح الأحداث، كما أظهر محمد علي التودد إلى كبار رجالات المصريين وعلمائهم ومجالستهم والصلاة ورائهم، وإظهار العطف والرعاية لمتاعب الشعب المصري وآلامه، مما أكسبه أيضًا ود المصريين.وفي مارس 1804، تم تعيين والٍ عثماني جديد يدعى "أحمد خورشيد باشا"، الذي استشعر خطورة محمد علي وفرقته الألبانية الذي استطاع أن يستفيد من الأحداث الجارية والصراع العثماني المملوكي، فتمكن من إجلاء المماليك إلى خارج القاهرة، فطلب من محمد علي بالتوجه إلى الصعيد لقتال المماليك، وأرسل إلى الآستانة طالبًا بأن تمده بجيش من "الدلاة". وما أن وصل هذا الجيش حتى عاث في القاهرة فسادًا مستوليا على الأموال والأمتعة ومعتديا على الأعراض، مما أثار تذمر الشعب، وطالب زعماؤه الوالي خورشيد باشا بكبح جماح تلك القوات، إلا أنه فشل في ذلك، مما أشعل ثورة الشعب التي أدت إلى عزل الوالي، واختار زعماء الشعب بقيادة عمر مكرم -نقيب الأشراف- محمد علي ليجلس محله.وفي 9 يوليو 1805، وأمام حكم الأمر الواقع، أصدر السلطان العثماني سليم الثالث فرمانًا سلطانيًا بعزل خورشيد باشا من ولاية مصر، وتولية محمد علي على مصر.
بعد أن بايعه أعيان الشعب في دار المحكمة ليكون واليًا على مصر في 17 مايو سنة 1805م والذي أقره فيها الفرمان السلطاني الصادر في 9 يوليو من نفس العام، كان على محمد علي أن يواجه الخطر الأكبر المحدق به، ألا وهو المماليك بزعامة محمد بك الألفي الذي كان المفضل لدى الإنجليز منذ أن ساندهم عندما أخرجوا الفرنسيين من مصر. ولم يمض سوى 3 أشهر حتى قرر المماليك مهاجمة القاهرة، وراسلوا بعض رؤساء الجند لينضموا إليهم عند مهاجمة المدينة. علم محمد علي بما يدبر له، فطالب من رؤساء الجند مجاراتهم واستدراجهم لدخول المدينة. وفي يوم الاحتفال بوفاء النيل عام 1805، هاجم ألف من المماليك القاهرة، ليقعوا في الفخ الذي نصبه محمد علي لهم، وأوقع بهم خسائر فادحة، مما اضطرهم للانسحاب. حينئذ، استغل محمد علي الفرصة، وطاردهم حتى أجلاهم عن الجيزة، فتقهقروا إلى الصعيد الذي كان ما زال في أيديهم. وفي أوائل عام 1806م، أنفذ محمد علي جيشًا لمحاربة المماليك في الصعيد بقيادة حسن باشا قائد الفرقة الألبانية، الذي اشتبك مع قوات محمد بك الألفي الأكثر عددًا في الفيوم، وانهزمت قوات محمد علي مما أدى إلى انسحابها إلى جنوب الجيزة، ثم فرّت جنوبًا إلى بني سويف من أمام قوات محمد بك الألفي الزاحفة نحو الجيزة. تزامن ذلك مع زحف قوات إبراهيم بك الكبير وعثمان بك البرديسي من أسيوط لاحتلال المنيا، التي كانت بها حامية تابعة لمحمد علي، إلا أن قوات حسن باشا دعّمت الحامية وأوقفت زحف قوات المماليك إلى المنيا.
في تلك الأثناء، صدر فرمان سلطاني بعزل محمد علي من ولاية مصر، وتوليته ولاية سلانيك. أظهر محمد على الامتثال للأمر واستعداده للرحيل، إلا أنه تحجج بأن الجند يرفضون رحيله قبل سداد الرواتب المتأخرة. وفي الوقت نفسه، لجأ إلى عمر مكرم نقيب الأشراف الذي كان له دور في توليته الحكم ليشفع له عند السلطان لإيقاف الفرمان. فأرسل علماء مصر وأشرافها رسالة للسلطان، يذكرون فيها محاسن محمد علي وما كان له من يد في دحر المماليك، ويلتمسون منه إبقائه واليًا على مصر. فقبلت الآستانة ذلك على أن يؤدي محمد علي 4,000 كيس، ويرسل ابنه إبراهيم رهينة في الآستانة إلى أن يدفع هذا الفرض.
بعد أن توجه محمد بك الألفي إلى الجيزة، لم يهاجم القاهرة وإنما توجه إلى دمنهور بناءً على اتفاق سري بينه وبين حلفائه الإنجليز، ليتخذها مركزًا لتجميع قواته، فحاصرها إلا أن أهالي المدينة وحاميتها استبسلوا في الدفاع عنها. وعندما بلغ محمد علي أنباء حصار دمنهور، أرسل جزءًا من جيشه لمواجهة قوات محمد بك الألفي، فوصلت إلى الرحمانية في أواخر شهر يوليو من عام 1806، واشتبكوا مع قوات الألفي بالنجيلة وهي قرية بالقرب من الرحمانية، وتعرض جيش محمد علي للمرة الثانية للهزيمة، وانسحبوا إلى منوف. عاد الألفي لحصار دمنهور، إلا أنه لم يبلغ منها منالاً، فقد طال الحصار فتألّب عليه جنوده متذمرين، مما اضطره لفك الحصار والانسحاب إلى الصعيد. وسرعان ما جاءت محمد علي أنباء وفاة عثمان بك البرديسي أحد أمراء مماليك الصعيد، ثم أنباء وفاة الألفي أثناء انسحابه، فاغتبط لذلك. سرعان ما جرد جيشًا وتولى قيادته لمحاربة المماليك في الصعيد. استطاع جيش محمد علي أن يهزم المماليك في أسيوط، ويجليهم عنها، واتخذ منها مقرًا لمعسكره حيث جاءته أنباء الحملة الإنجليزية
اتجه محمد علي إلى بناء دولة عصرية على النسق الأوروبي في مصر، واستعان في مشروعاته الاقتصادية والعلمية بخبراء أوروبيين ومنهم بصفة خاصة السان سيمونيونالفرنسيون الذين أمضوا في مصر بضع سنوات في ثلاثينات القرن التاسع عشر وكانوا يدعون إلى إقامة مجتمع نموذجي على أساس الصناعة المعتمدة على العلم الحديث. وكانت أهم دعائم دولته العصرية سياسته التعليمية والتثقيفية الحديثة، حيث كان يؤمن بأنه لن يستطيع أن ينشئ قوة عسكرية على الطراز الأوروبي المتقدم ويزودها بكل التقنيات العصرية وأن يقيم إدارة فعالة واقتصاد مزدهر يدعمها ويحميها إلا بإيجاد تعليم عصري يحل محل التعليم التقليدي.
بعد انسحاب الجنود المصرية من بلاد الشام وفصل الأخيرة عن مصر وعودتها لربوع الدولة العثمانية بدعم دولي كبير، وبعدما تبيّن أن فرنسا ليست مستعدة لخوض حرب في سبيل مصر أو واليها، أصيب محمد علي باشا بحالة من جنون الارتياب، وأخذ يُصبح مشوش التفكير شيءًا فشيئًا، ويُعاني من صعوبة في التذكّر، ومن غير المؤكد إن كان هذا نتيجة جهده الذهني خلال حرب الشام، أو حالة طبيعية نتيجة تقدمه بالسن، أو كان تأثير نترات الفضة التي نصحه أطباؤه بتعاطيها منذ زمن لعلاج نفسه من مرض الزحار.
ما زاد حالة محمد علي باشا سوءًا كانت المصائب التي حلّت بمصر وعليه شخصيًا في أواخر عمره، ففي سنة 1844 تبيّن لرئيس الديوان المالي شريف باشا، أن ديون الدولة المصرية قد بلغت 80 مليون فرنك، وأن المتأخرات الضريبية قد بلغت 14,081,500 قرشًا من الضريبة الإجمالية المقدرة بحوالي 75,227,500 قرش. وتخوّف الباشا من عرض الموضوع على محمد علي لما قد يكون له من وقع شديد عليه، فعرض المسألة على إبراهيم باشا الذي اقترح أن تقوم أحب شقيقاته إلى والده بنقل الخبر، إلا أن ذلك لم يكن له الأثر المرجو، فقد فاق غضب محمد علي ما توقعه الجميع، ولم يهدأ باله ويستكين خاطره إلا بعد مرور ستة أيام.
بعد عام من هذه الحادثة، أصيب إبراهيم باشا بالسل، واشتد عليه داء المفاصل، وأخذ يبصق دمًا عند السعال، فزاد ذلك من هموم محمد علي وحزنه، فأرسل ولده إلى إيطاليا للعلاج، على الرغم من أنه أدرك في قرارة نفسه أن ولده في عداد الأموات، ويتضح ذلك جليًا مما قاله للسلطان عندما زار الآستانة في سنة 1846، حيث عبّر عن خوفه من ضياع إنجازاته بسبب عدم كفاءة أحفاده لتحمّل مسؤولية البلاد والعباد، فقال: «ولدي عجوزٌ عليل، وعبّاس متراخ كسول، من عساه يحكم مصر الآن سوى الأولاد، وكيف لهؤلاء أن يحفظوها؟» بعد ذلك عاد محمد علي إلى مصر وبقي واليًا عليها حتى اشتدت عليه الشيخوخة، وبحلول عام 1848 كان قد أصيب بالخرف وأصبح توليه عرش الدولة أمرًا مستحيلاً، فعزله أبناؤه وتولّى إبراهيم باشا إدارة الدولة.
حكم إبراهيم باشا مصر طيلة 6 أشهر فقط، قبل أن يتمكن منه المرض وتوافيه المنيّة في 10 نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1848، فخلفه ابن أخيه طوسون، عبّاس حلمي. وبحلول هذا الوقت كان محمد علي باشا يُعاني من المرض أيضًا، وكان قد بلغ من الخرف حدًا لا يمكنه أن يستوعب خبر وفاة ابنه إبراهيم، فلم يُبلّغ بذلك. عاش محمد علي بضعة شهور بعد وفاة ولده، وتوفي في قصر رأس التين بالإسكندرية بتاريخ2 أغسطس سنة 1849م، الموافق فيه 13 رمضان سنة 1265هـ  فنُقل جثمانه إلى القاهرة حيث دُفن في الجامع الذي كان قد بناه قبل زمن في قلعة المدينة. كانت جنازة محمد علي باشا معتدلة الحضور والمراسم، ويرجع ذلك بشكل كبير إلى الوالي عبّاس حلمي الذي طالما اختلف في الآراء والمشارب مع جدّه وعمّه إبراهيم، وكان يحمل له شيءًا من الضغينة. يقول القنصل البريطاني جون موراي، وهو من الأشخاص الذين شاركوا في تشييع محمد علي إلى مثواه الأخير:
... كان الحضور في الجنازة حضورًا هزيلاً غثًا؛ كثير من القناصل والسفراء لم يُدعوا للمشاركة، ولم تُغلق الحوانيت ولا الدوائر الحكومية.. باختصار، يسود انطباع عام مفاده أن عبّاس باشا هو الجدير باللوم، فقد قلل من شأن جدّه وذكراه اللامعة، ولم يحترم ذكراه حق الاحترام، وكيف لا يكون ذلك وقد سمح أن يُقام مأتم هذا الرجل على هذا الشكل البائس وأهمل العناية به أشد الإهمال.
...إن تعلّق وتبجيل جميع طبقات المجتمع المصري لاسم محمد علي لهو مأتم أعظم شأنًا وأكثر شرفًا من أي جنازة أخرى يُقدمها له خلفاؤه. يتحدث الأهالي الكبار ممن يتذكر عن الفوضى والظلم الذي غرقت به البلاد قبل وصوله؛ ويُقارن الشباب حكمه بحكم خلفه المتقلّب والمتذبذب؛ كل طبقات الشعب من ترك وعرب، لا تتردد في قول أن مصر المزدهرة المتحضرة ماتت مع محمد علي...في واقع الأمر يا سيدي، لا يمكننا ولا يمكن لأحد أن ينكر، أن محمد علي، على الرغم من كل أخطائه، كان رجلاً عظيم الشأن.
تغريد فؤاد




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق